
في شهر يوليوز من سنة 2012، تلقيت هذه الرسالة على حسابي الخاص:
" مرحباً رشيد، لقد رأيت أنك نشط للغاية في المنطقة فيما يتعلق بالسياحة البيئية. أود أن أكون على اتصال بك، لأنني سأشتري منزلاً في تافردوست وأنا مرشد محلي.
صداقات من بلجيكا.
آلان وزينب"
مرت فترة يسيرة على هذه الرسالة، فتوطدت علاقات تواصلنا أنا وهذا الكهل البلجيكي الذي يبذو لي أشد حماسا وشغفا من أبناء البلدة المهتمين أنفسهم، تبادلنا بعض المعلومات، طلب أن أمنحه اليد لكي يساهم بالصور في حسابي آنذاك على موقع بانوراميو، الذي كان يغذي مباشرة منصة "غوغل إيرث" بالمحتوى البصري، وأذكر ساعتها أن حسابي كان يتوفر على أكثر من مائة صورة منشورة من طرف الموقع، كلها صور منظرية من جبل ثيشوكت ومن قصبات ودواوير المنطقة.
في السنة الموالية، التقيت "آلان" لأول مرة مع زوجته المغربية آنذاك، وقضينا بفاس بعض الوقت في الدردشة حول مشروعه المستقبلي في ثفردوست، أذكر أنه قال لي باسما، "أنا لست غنياُ، ولكني مولع بهذه القصبة، وأريد أن أكرس كل جهدي لتثمينها سياحيا بشكل مستدام وإشعاع القيم الثقافية الجميلة التي تكتنزها، أعلم أن ذلك سيأخذ مني وقتا طويلا، لأنني في كل مرة، يجب أن أغادر إلى بلجيكا لجمع بعض المال ثم أعود إلى تافردوست لإتمام العمل"، و كان ساعتها يفاوض لشراء منازل أخرى في القصبة المهجورة، مكّنته ساعتها من بعض العناوين و أرقام الهواتف، لتيسير تواصله مع مختلف الأطراف بإقليم بولمان عموما، و راسلني بعد ذلك و هو ممتن لجودة الأشخاص الذين التقاهم بفضل مساعدتي.
بعد ذلك ولسنوات، ظللت أتابع أشغاله وأتقاسم معه كلما أتيحت فرصة الحديث، بعض أحاديثنا كانت حول ما أنا بصدد كتابته في هذا المقال.
ولكن، ما الذي يمكن أن يجعل أوروبيا يقع في غرام هذه القرية إلى هذا الحد؟

دوّن أحد الكتاب الفرنسيين سنة 1947، واصفا "تافردوست" في طريق رحلته من بولمان إلى سكورة قائلا:
"على طول جانب الجبل، يمتد الطريق الذي ينعرج ملازماً التواءات خط جريان النهر، كان هذا المسار في يوم من الأيام طريقا للعمليات العسكرية. وهو اليوم مناسب لإرضاء السائح بعجائب المواقع التي يمكنه اكتشافها عند كل منعطف. لسوء الحظ، لا يعرف سوى عدد قليل من المطّلِعين قريةَ تافردوست الخلابة، المبنية على صخرة شبه دائرية يغمرُ النهر جَنَباتِها، والتي تستحضر إلى الأذهان بشكل هياكلها الصخرية الأفقية، صورة مؤخرة باخرة ركاب عملاقة"
بينما يصر كثيرون على الإشادة بكون ثفردوست معلمة فريدة بشكلها وتصميمها، يذهب آخرون إلى القول أنها قرية جبلية عادية، مبنية في موقع منيع ومحصنة بشكل جيد ضد هجمات الأغيار، أو لحماية مخزون الحبوب والأغذية الأخرى، مثلما بنيت حصون أخرى في مناطق جبلية أخرى متعددة، حيث يكون البناء من المواد المحلية بالموقع مع استغلال أمثل للتضاريس المحلية.
وهناك أيضا من يذهب في تحليله أن سلاطين المغرب كانوا يستقدمون فصائل من قبائل آيت نظير وبني مطير ليستوطنوا مجموعة من الممرات الاستراتيجية بالمنطقة قصد تأمين "طريق السلطان" الشهيرة بين فاس وتافيلالت، وقصد بسط أكبر لنفوذ المخزن في هذه الجبال المعادية.
كان يجب انتظار سنة 2012، حين استقطبَ الموقع أحد أنجح الأفلام السينمائية المغربية، لتكون ثفردوست مسرحا لتصوير أجزاء مهمة من الفيلم "أندرومان، من دم وفحم"، أحد أنجح الأفلام السينمائية المغربية.
يقول عز العرب العلوي، مخرج الفيلم، عن طبيعة الموقع: "الإشكال الكبير الذي كنت أعاني منه في تصوير فيلم اندرومان من دم وفحم كان هو موقع التصوير.. تفردوست او صخرة تيتانيك كما كان يحب البعض ان يسميها. المكان كان صعبا للغاية ... فهو بعيدا كل البعد عن الحضارة .. مكان كأنك في العصور الوسطى ..الافاعي والعقارب والخنازير في كل مكان ..وبلاطو التصوير كان يتموقع في أعلى الجبل.. ويحيط به واد من جميع الجهات لا يمكن الوصول اليه الا عبر قنطرة ضيقة وتسخير الدواب لذلك أيضا ..هذا المعطى جعل الكثير من التقنيين ينسحبون من أول يوم تصوير و هناك من انسحب بمجرد رؤيته .. "
وُعُورة المكان هي الطابع المميز لهذا النوع من التحصينات، و هي الميزة التي مكنت سكان هذا النوع من الحصون، من اتقاء هجمات الغير عليهم، حتى عندما بدأ الزحف الفرنسي على هذا الجانب من جبل ثيشوكت الصامد، لم يكن المستعمرون ليفهموا طبيعة المكان بدون استعمال الطيران. و قد تكون هذه أول صورة التُقِطت لمعلمة ثفردوست الجميلة، قبل أزيد من قرن من الزمن، وسنوات قليلة فقط بعد الواقعة المشؤومة لغرق باخرة "تايتانيك".

تقول الصحيفة الفرنسية التي نشرت الصورة في أكتوبر 1920، أن هذا الطيار الذي التقطها قد قدم بذلك هدية يستحيل مكافأتها، لقائد الفيلق المكلف باحتلال هذه المنطقة المتميزة من الأطلس المتوسط، و ذلك بتوفيره صورة عمودية دقيقة التفاصيل، توضح بجلاء، طبيعة وشكل التضاريس في هذا الموقع العجيب وسط #بلاد_البارود .
ثم بعد أن استقرت الأوضاع في سنوات الاربعينات من القرن الماضي، باشر المستعمر الفرنسي بناء جسر ثفردوست، و يظل إلى اليوم هذا الجسر من أجمل و أهم المعالم التي لم يطلها الإندثار بعد في المنطقة، بالرغم من موقع بنائها على واد غيغو المشهور بارتفاع منسوبه أثناء العواصف، إلا أن أقواس القنطرة تبقى عالية نسبيا و بعيدة المنال عن المياه الغاضبة للفيضانات، حتى أن بعض السكان لا زالوا يتداولون مثلا محليا شهيرا يقول : "بزّاف عليك هاد القنطرة يا ثفردوست"، بمعنى أن القرية الصغيرة نسبيا لا تحتاج منشأة بهذا الشكل، يُحكى أن المقاول الذي بنى القنطرة هو أول من قال هذه الجملة أثناء تأمله للمنشأة و إعجابه بعد انتهاء الأشغال بها.

تقول رواية أهل المنطقة، أن السنوات التي شهدت ورش بناء القنطرة في أربعينيات القرن الماضي، كانت سنوات قاسية على المغاربة بسبب قلة الموارد الغذائية، ولكن أهل ثفردوست المنخرطين في الورش آنذاك، كانوا يتحصلون على الدقيق و المواد الغذائية الأخرى مقابل عملهم في ورش البناء، فكانت ظروفهم المعيشية نسبيا أفضل من باقي المناطق المجاورة.
هي نفس وعورة التضاريس و قساوة الطبيعة الجبلية التي جعلت البعض أيضًا يسميها "ماشو بيتشو الأطلس المتوسط"، تشبيها بجوهرة شعب الإِنْكَا، المدينة المعلقة المشهورة في جبال الأنديز بالبيرو، و الحقيقة أن هذا التشبيه ل "ثفردوست" ب "قمة الجبل القديمة، ماشو بيتشو"، إذا ما تغاضينا عن الجانب العقائدي في أدوار هذه الأخيرة، كونها مدينة لتقديم القرابين في ثقافة الإنكا، فإن الشبه بينهما تفرضه النظرة الفاحصة، عندما نلقيها إلى فلسفة البناء في مواقع منيعة، الأزقة الضيقة، الزراعة المعيشية في المدرجات المحصورة بين الجروف و الواد ، توزيع المياه، إضافة إلى الأحجار كبيرة الحجم والمتراصة فوق بعضها، هذا التشبيه و التشابه يحْمِلان قيمةً أسمى من تشبيه ثفردوست بسفينة غرقت بعد أقل من شهر من إبحارها الأول.

كل ما في ثفردوست يوحي بأنها ثمرة مجهود جماعي جبّار، مكَّن القدماء بإصرار وتفانِ، من إنشاء فضاء للعيش المشترك، مستغلين إلى أبعد الحدود، ما تمنحه الطبيعة و مهارة الإنسان الأمازيغي. نحن نقف اليوم متسائلين، كلما نظرنا إلى تلك الكتل الحجرية العملاقة التي تؤسس لجدران البيوت في ثفردوست العريقة: كيف تم اقتلاعها وتحريكها والتعامل معها لتكون طائعة للبُناةِ الأولين؟ أي مجهود بشري تمت تعبئته لإتمام هذه المهام الفرعونية؟ حينما نقترب من هذه الجلاميد المؤسِّسَةِ للبنيان، ندرك أن بعضها يتجاوز بسهولة وزن العشرة أطنان.
مثلما مكنت روح التويزة الأمازيغية هاته، مكنت الأفراد والأسر من استغلال العمل الجماعي لبناء بيوتهم الخاصة و إسطبلات ماشيتهم، فإن هذا التعاضد وهذه الروح الجماعية قد مكَّنَا أيضا من تهيئة باقي المرافق الموجهة للاستغلال الجماعي بالقصبة، تلك المرافق التي لا تستقيم حياة القبيلة بدونها، و منها أسوار التحصينات الصخرية العملاقة أيضا، المنشآت المائية، و معاصر الزيتون.
تشتهر هذه المنطقة من واد غيغو، و إلى حدود بلاد آيت علاهم شمال سهل مداز، بانتشار بساتين الزيتون التي تعود أشجارها إلى قرون، حيث يعتبر إنتاج زيت الزيتون من بين الأنشطة الرئيسية للسكان، و على الرغم من أن نشاط الجني موسمي، إلا أن سلسلة من الأعمال الزراعية والحرفية المتعلقة بقطاع الزيتون تُمارَسُ على مدار العام، ومن بينها صيانة بناية و معدات المطحنة – المعصرة، حتى فترة عصر الزيتون كانت تمتد لأسابيع و لشهور في الجوار .
مطحنة و معصرة الزيتون التقليدية "ثاسيرث أوزقُّور" حسب لسان أهل المنطقة (ثاسيرت هي الرحى، و أزقور هو قطعة الخشب الكبيرة)، هي واحدة من مرافق الاستغلال الجماعي الهامة في القرى الجبلية مثل ثفردوست، حتى ولو كانت في ملك شخص واحد، أو أسرة واحدة، فإن الجيران لهم الحق في استعمال المعصرة، مقابل نسبة من الزيت يؤدونها لمالك المعصرة، تحددها الأعراف المحلية، كما تحدد أجرة العاملين و أجرة الدواب المستعملة للطحن، و نجد "تاسيرت أوزقّور" عبارة عن أبنية خلابة مربعة غالبا، تم إنشاؤها بتناغم الشجر والحجر، في أحيان عديدة تكون منخفضة ومظلمة ، و نصف مدفونة في الأرض، يحافظ الجبليون على الغرفة مظلمة او خافتة الضوء لاعتقادهم أن الضوء يؤثر على جودة الزيت، ولو أن المعمل في المبنى المربع في قصبات سكورة لا يفصل بين الفضاءات بالجدران الداخلية، إلا أنه يمكن بسهولة تمييز تقسيم هذا الفضاء، الجزء المربع و الجزء المستطيل، يحتوي الجزء المربع على "تاسيرت" المكونة من أحجار الرحى المدورة، و جفنة الزيتون "أَلْمْسِيرْ" وباقي الأجزاء الضرورية للتوازن العمودي لحجر الرحى العلوي، إضافة إلى أجزاء الربط مع الدابة، و يحتوي الجزء المستطيل على "أزقُّور" أو "أنيموض" هذا المارد الممدد منتظرا أن ينام على وساداته الزيتية!

تحكي هذه المعامل العريقة بين جدرانها فصولا متعاقبة للجهد البشري المُتَضَامِن بين أفراد القبائل، بممارسات التويزا في أشد فصولها عرَقاً وعنفواناً، كما تَعرضُ لنا كل المهارات التقنية و الفنية للحِرَفِي و الفلاّح المُنتج للزيت، و أعرافِ و قوانين تسيير و تدبير هذه المنشأة، مثلما نجد حولها العديد من القصص، بعضها يفيد التلاحم العشائري، و البعض الآخر يحكي عن التنافر بين بعض مكونات القبيلة، و بالرغم من ذلك، فقد كانت تسود روح التعايش من أجل مصلحة و سلامة الجميع، ومن أجل الحفاظ على "البَرَكة" أيضا.
من بين فصول العرق والعنفوان، دحرجة أحجار رحى الزيتون المدورة و الثقيلة جداً، من مكان قطعها (الذي لانعلمه)، إلى مُسْتَقَرِّها في مركز المطحنة، وأكثر إبهارًا من ذلك، تلك الملحمة العجيبة، التي نتخيلها ونحن أمام جذع شجرة عملاقة مصقولة الوجوه الأربعة، مع آلية اللولب المنحوتة بفنية في أحد الطرفين، قطعة خشبية واحدة بَسُمْكِ مترٍ تقريبا، و بِطُول عشرة أمتار أو اكثر، ووزنِ قد يتجاوز أربعة أطنان، هذا العمود المارد الذي يشكل الذراع الضاغط للمعصرة، هو أكبر بكثير من مثيله الذي تفتخر به مدينة وليلي الأثرية في بلاد زرهون.
مارِدُنا هذا كان في الأصل شجرة أرزِ شامخة و خالية من العيوب تقريباً، جلبَتْهُ القبيلة في أيام مشهودة من أرزية قِمَمِ جبل ثيشوكت. كيف جاؤوا بهذا ال"آنِيْمُوضْ" من القمة إلى أن استقر في هذا المنحدر المختبئ في الجرف الجنوبي لثفردوست؟ في الغالب وضعوا "الأنيموض" أولاً، ثم ثبتوا أحجار الرحى المدورة في مكانها، قبل أن يبنوا الجدران الخارجية والسقف، هذا ما لاحظته عيني غير الخبيرة، أما إذا ما كان الأمر غير ذلك، فسيسعدني أن أسمع التفاصيل من العارفين.

حتما هذه العملية كانت ملحمةً بدون مبالغة، يحكي لنا الأهالي في الدواوير الأولى لسكورة كيف تعبأت قبيلة دوار آخر، "ثاقبيلت أوغرم إيشنعكي" في الزمن الماضي ، رجالا و نساءً، مصحوبين بالدّواب الصبورة، و مسلحين بالعزائم و الهمم، و بوجبات الأكل المتنقلة، و جرعات الطاقة التي توزعها نساء القرية المرافقات للبعثة بالزغاريد، و في إحدى قصص "إيشنعكي"، أصاب القوم العياء و الخمول عندما بلغوا بالعمود العملاق مدخل القرية، بقية الحكاية مشوقة، سيرويها أنجدي لضيوفه في عين المكان عندما يحين الوقت، و في أماكن أخرى هناك حتما حكايات أخرى جميلة، ولكن تقادمها وعدم توثيقها يجعلها شحيحة، لا تشفي غليل محبِّ للتفاصيل مثلي، غير أن الأجمل فيها، هي مساحة التخيل التي يتيحها هذا الاقتضاب في الرواية الشفاهية، تلك هي متعة السفر في الزمن، متعة النسج الشخصي للقصص الصغيرة ، لتؤثث في خيالنا فضاءات القصة الكبيرة.

نفس الأحاسيس تجتاحك عند تأمل "آنيموض" أو "آزقّور" في إيش نعكي، و ثفردوست كما في تاغروت، وهي ثلاثة مواقع لازال بإمكانك، إلى حدود وقت كتابة هذه السطور، في الحادي عشر من أبريل 2023، قلت لازال بإمكانك الإستمتاع أمامها في سكورة مداز، بهذا السفر عبر الزمن، قبل أن يقرر الورثة المالكون للمطحنة بيع هاته القطع الفريدة لنجارين محليين لا مُبالِين، همُّهُم و اهتمامهم الوحيد، أن يكون الخشب خاليا من "المعزة"، ليكون الرِّبْحُ أوفر، هم هكذا النجارون، بعد أن قضوا على الأرز في الجِبال، نزلوا يبحثون عن خشبه في مثل هاته القطع التي لا تقدر بثمن، هم في هذا الأمر لا يختلفون عن مناشيرهم ! إلا قلّة منهم.

"من الشجرة للحجرة": هي عبارة الثنائية المتداولة بفخر في الجبال لتعبِّر ببساطة عن أفضل معايير جودة الزيت "العذراء"، وتعني أن حبوب الزيتون تأتي مباشرة من أشجارها لتُطحن تحت "حجرة الرحى" دون تأخير، فتكون بذلك أجود!
في الزمن الذي كانت فيه معاصر "تاسيرث أوزقُّور" تشتغل، كان الناس يشهدون فيه أيضا رحلة عكسية للزيتون، هذه المرة "من الحجرة للشجرة" حين يقوم "لمعلّم" بنقل عجين الزيتون في أقراص الدوم أو الحلفاء، من تحت حجر الرحى و "آلمْسِير" إلى أسفل "الشجرة"، ذراع الضغط الخشبي من الأرز العملاق، الذي عاش شجرة شامخة لقرون في القمم، وطالما عششت طيور جميلة وكواسر نادرة فوق أغصانه في تيشوكت، وزأرت وزمجرت تحت ظلاله فهود الأطلس المُرقطّة، قبل أن يُفنيها الصيادون الجائرون.

"تاسيرث أوزقور"، هذا المرفق المتفرد شكلا و تاريخا و تموقعًا في الجرف الجنوبي لثفردوست، يستحق أن يَصْنَعَ لوحده مادة للزيارة الثقافية و التربية على البيئة و المواطنة يا وزارة السياحة و يا وزارة التعليم، و قبل ذلك مادة للجرد العلمي يا أساتذة الجامعات، و أولوية للصون و الحماية يا وزير الثقافة و يا مدبر الشأن المحلي، أما بالنسبة لنا نحن أبناء البلد، حُماة الذاكرة و سفراء التراب، فكلما وقفنا مع ضيف من ضيوفنا داخل هذه الجدران، نحاول أن نخبره، بين تنهيدة الفخر و زفرة الحسرة ، أن هذا الحيز المكاني الضيق، بكل عبقه المادي و اللامادي، هو أفضل بطاقة تعريف لهذه المجتمعات الجبلية، و بأن إنقاذ هذه المباني وغيرها في القصبات الأخرى سوف يسلط الضوء على الممارسات المختلفة التي شكَّلَتْ حجر الأساس للتعايش في سكورة مداز، على غرار باقي الجبل المغربي.
الشغوفون مثل صديقي البلجيكي "آلان"، يعرفون كُنه الكلام المكتوب أعلاه، ويحاولون، كل من جهته، أن يدفعوا بعجلة التنمية الثقيلة في هذه الأركان قدر المستطاع، مؤمنين أن التنمية لا يمكن أن تكون تنميةَ، إلا إذا كانت مستدامة!
قبل شهر تقريبا من الآن، علَّق صديقي البلجيكي " آلان" على منشور لبعض أصدقائنا يُشْهِرُونَ فيه موقعا جديدا على الأنترنيت يضم بعض وحدات الإيواء السياحي بجماعات الإقليم، من بينها سكورة مداز، علَّق قائلا:
" إنها مبادرة جميلة، مع ملاحظة صغيرة: لا أفهم أن المرء يريد أن يجذب الناس إلى سكورة مداز، دون أن يضع على الأقل صورة تافردوست ("ماتشو بيتشو الأطلس")، قصبة لؤلؤة حقيقية وهي جزء من سكورة."

بعد أسبوعين من ذلك، كنا قد أطلقنا في "مجموعة أنجدي"، هذا الموقع www.anejdi.com ، مع تضمينه العديد من صور ثفردوست، حرصت انا شخصيا على التقاطها، فسارعت إلى إخباره بالرسالة التالية:
" أهلا عزيزي "آلان"
تقول الأسطورة، ذات يوم، اندلع حريق هائل في الغابة. هربت كل الحيوانات المذعورة وكانت تشاهد الكارثة من بعيد بلا حول ولا قوة. وكان الطائر الطنان الصغير هو الوحيد الذي بقي مشغولا بالنار، كان يطير إلى النهر المجاور ويحضر بضع قطرات ماء بمنقاره لإلقائها على النار، ثم يعود من جديد ليكرر العملية مرارا. بعد فترة، قال له الحيوان المدرّع، منزعجًا من هذا الجهد الضائع: "أيها الطنان ! هل أنت مجنون؟ لن تطفئ النار بقطرات الماء هذه ! »
فأجابه الطائر الطنان: "أنا أعرف ذلك، لكني أقوم بدوري.
هذا هو دوري مع فريقي الصغير يا صديقي :www.anejdi.com
أتمنى أن يكون المدافع الشرس عن ثفردوست راضيا الآن، في انتظار إسهاماتك طبعا 😊!»
كان أملي أن يكون هذا العمل الذي أنجزناه في موقعنا الجديد، محطة انطلاق أيضا لمشروعه في ثفردوست، حيث كان ينتظر بفارغ الصبر أن يستقبل أصدقاءه ليستمتع معهم بالنظر إلى النجوم من فوق أسطح منزله بعد إتمام الأشغال، هكذا كان يعدهم بالأمر دائما، ولكن..
بقيت رسالتي الأخيرة غير مقروءة للأسف الشديد، فقد تم إخبارنا لاحقا من طرف صديقي ربيع، بأن "آلان" قد توفي بمنزله في بلجيكا في النصف الثاني من شهر مارس، وأُعلن موعد دفنه يوم أمس 11 أبريل.
أصدق التعازي لكل من أحبّ "آلان"، و لكل من عرف و أحب ثفردوست عن طريقه !
رشيد أوالطاهر
12 أبريل 2023
Comments